الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»
.باب مَنْ حَلَفَ بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ: 3107- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفه بِاَللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه» إِنَّمَا أَمَرَ بِقَوْلِ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه لِأَنَّهُ تَعَاطَى تَعْظِيم صُورَة الْأَصْنَام حِين حَلَفَ بِهَا. قَالَ أَصْحَابنَا: إِذَا حَلَفَ بِاَللَّاتِ وَالْعُزَّى وَغَيْرهمَا مِنْ الْأَصْنَام، أَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيّ أَوْ نَصْرَانِيّ أَوْ بَرِيء مِنْ الْإِسْلَام، أَوْ بَرِيء مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ نَحْو ذَلِكَ، لَمْ تَنْعَقِد يَمِينه؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِر اللَّه تَعَالَى وَيَقُول: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ، سَوَاء فَعَلَهُ أَمْ لَا، هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالك وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: تَجِب الْكَفَّارَة فِي كُلّ ذَلِكَ إِلَّا فِي قَوْله: أَنَا مُبْتَدِع أَوْ بَرِيء مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الْيَهُودِيَّة، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْمُظَاهِر الْكَفَّارَة؛ لِأَنَّهُ مُنْكَر مِنْ الْقَوْل وَزُور، وَالْحَلِف بِهَذِهِ الْأَشْيَاء مُنْكَر وَزُور.وَاحْتَجَّ أَصْحَابنَا وَالْجُمْهُور بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَمَرَهُ يَقُول: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه، وَلَمْ يَذْكُر كَفَّارَة، وَلِأَنَّ الْأَصْل عَدَمهَا حَتَّى يَثْبُت فيها شَرْع، وَأَمَّا قِيَاسهمْ عَلَى الظِّهَار فَيُنْتَقَض بِمَا اِسْتَثْنَوْهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَم.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرك فَلْيَتَصَدَّقْ» قَالَ الْعُلَمَاء: أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ تَكْفِيرًا لِخَطِيئَةٍ فِي كَلَامه بِهَذِهِ الْمَعْصِيَة، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ: فَلْيَتَصَدَّقْ بِمِقْدَارِ مَا أَمَرَ أَنْ يُقَامِر بِهِ، وَالصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ وَهُوَ ظَاهِر الْحَدِيث أَنَّهُ لَا يَخْتَصّ بِذَلِكَ الْمِقْدَار؛ بَلْ يَتَصَدَّق بِمَا تَيَسَّرَ مِمَّا يَنْطَلِق عَلَيْهِ اِسْم الصَّدَقَة، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة مَعْمَر الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم: «فَلْيَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ» قَالَ الْقَاضِي: فَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلَالَة لِمَذْهَبِ الْجُمْهُور أَنَّ الْعَزْم عَلَى الْمَعْصِيَة إِذَا اِسْتَقَرَّ فِي الْقَلْب كَانَ ذَنْبًا يُكْتَبُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْخَاطِر الَّذِي لَا يَسْتَقِرّ فِي الْقَلْب، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة وَاضِحَة فِي أَوَّل الْكِتَاب.3108- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي وَلَا بِآبَائِكُمْ» هَذَا الْحَدِيث مِثْل الْحَدِيث السَّابِق فِي النَّهْي عَنْ الْحَلِف بِاَللَّاتِ وَالْعُزَّى، قَالَ أَهْل اللُّغَة وَالْغَرِيب: الطَّوَاغِي هِيَ: الْأَصْنَام، وَاحِدهَا: طَاغِيَة، وَمِنْهُ طَاغِيَة دَوْس، أَيْ صَنَمهمْ وَمَعْبُودهمْ، سُمِّيَ بِاسْمِ الْمَصْدَر لِطُغْيَانِ الْكُفَّار بِعِبَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُ سَبَب طُغْيَانهمْ وَكُفْرهمْ، وَكُلّ مَا جَاوَزَ الْحَدّ فِي تَعْظِيم أَوْ غَيْره فَقَدْ طَغَى، فَالطُّغْيَان الْمُجَاوَزَة لِلْحَدِّ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {لَمَّا طَغَى الْمَاء} أَيْ: جَاوَزَ الْحَدّ، وَقِيلَ: يَجُوز أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالطَّوَاغِي هُنَا مَنْ طَغَى مِنْ الْكُفَّار، وَجَاوَزَ الْقَدْر الْمُعْتَاد فِي الشَّرّ، وَهُمْ عُظَمَاؤُهُمْ، وَرُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيث فِي غَيْر مُسْلِم: «لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِيتِ» وَهُوَ جَمْع طَاغُوت وَهُوَ الصَّنَم، وَيُطْلَق عَلَى الشَّيْطَان أَيْضًا، وَيَكُون الطَّاغُوت وَاحِدًا وَجَمْعًا وَمُذَكَّرًا وَمُؤَنَّثًا، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَاجْتَنَبُوا الطَّاغُوت أَنْ يَعْبُدُوهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت} الْآيَة... {يَكْفُرُوا بِهِ}..باب نَدْبِ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا أَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي وَاَللَّه إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِف عَلَى يَمِين ثُمَّ أَرَى خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْت عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْر» وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْر وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينه» وَفِي رِوَايَة: «إِذَا حَلَفَ أَحَدكُمْ عَلَى الْيَمِين فَرَأَى خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْهَا وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْر».فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث: دَلَالَة عَلَى مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْل شَيْء أَوْ تَرْكه، وَكَانَ الْحِنْث خَيْرًا مِنْ التَّمَادِي عَلَى الْيَمِين، اُسْتُحِبَّ لَهُ الْحِنْث، وَتَلْزَمهُ الْكَفَّارَة وَهَذَا مُتَّفَق عَلَيْهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة قَبْل الْحِنْث، وَعَلَى أَنَّهُ يَجُوز تَأْخِيرهَا عَنْ الْحِنْث، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز تَقْدِيمهَا عَلَى الْيَمِين، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازهَا بَعْد الْيَمِين وَقَبْل الْحِنْث، فَجَوَّزَهَا مَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيّ وَأَرْبَعَة عَشَر صَحَابِيًّا وَجَمَاعَات مِنْ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْل جَمَاهِير الْعُلَمَاء، لَكِنْ قَالُوا: يُسْتَحَبّ كَوْنهَا بَعْد الْحِنْث، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيّ التَّكْفِير بِالصَّوْمِ فَقَالَ: لَا يَجُوز قَبْل الْحِنْث؛ لِأَنَّ عِبَادَة بَدَنِيَّة، فَلَا يَجُوز تَقْدِيمهَا عَلَى وَقْتهَا كَالصَّلَاةِ وَصَوْم رَمَضَان، وَأَمَّا التَّكْفِير بِالْمَالِ فَيَجُوز تَقْدِيمه كَمَا يَجُوز تَعْجِيل الزَّكَاة، وَاسْتَثْنَى بَعْض أَصْحَابنَا حِنْث الْمَعْصِيَة، فَقَالَ: لَا يَجُوز تَقْدِيم كَفَّارَته لِأَنَّ فيه إِعَانَة عَلَى الْمَعْصِيَة، وَالْجُمْهُور عَلَى إِجْزَائِهَا كَغَيْرِ الْمَعْصِيَة، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَأَشْهَب الْمَالِكِيّ: لَا يَجُوز تَقْدِيم الْكَفَّارَة عَلَى الْحِنْث بِكُلِّ حَال، وَدَلِيل الْجُمْهُور ظَوَاهِر هَذِهِ الْأَحَادِيث، وَالْقِيَاس عَلَى تَعْجِيل الزَّكَاة.3109- قَوْله: «أَتَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْط مِنْ الْأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلهُ» أَيْ: نَطْلُب مِنْهُ مَا يَحْمِلنَا مِنْ الْإِبِل، وَيَحْمِل أَثْقَالنَا.قَوْله: «فَأَمَرَ لَنَا بِثَلَاثِ ذَوْد غُرّ الذُّرَى» وَفِي رِوَايَة: بِخَمْسِ ذَوْد، وَفِي رِوَايَة: «بِثَلَاثَةِ ذَوْد بُقْع الذُّرَى».أَمَّا (الذُّرَى) فَبِضَمِّ الذَّال وَكَسْرهَا وَفَتْح الرَّاء الْمُخَفَّفَة، جَمْع (ذُرْوَة) بِكَسْرِ الذَّال وَضَمّهَا، وَذُرْوَة كُلّ شَيْء أَعْلَاهُ، وَالْمُرَاد هُنَا الْأَسْنِمَة، وَأَمَّا (الْغُرّ) فَهِيَ الْبِيض، وَكَذَلِكَ (الْبُقْع) الْمُرَاد بِهَا: الْبِيض، وَأَصْلُهَا مَا كَانَ فيه بَيَاض وَسَوَاد، وَمَعْنَاهُ: أَمَرَ لَنَا بِإِبِلٍ بِيض الْأَسْنِمَة.وَأَمَّا قَوْله: بِثَلَاثِ ذَوْد فَهُوَ مِنْ إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفْسه، وَقَدْ يَحْتَجّ بِهِ مَنْ يُطْلِق الذَّوْد عَلَى الْوَاحِدَة، وَسَبَقَ إِيضَاحه فِي كِتَاب الزَّكَاة.وَأَمَّا قَوْله: «بِثَلَاثٍ» وَفِي رِوَايَة. «بِخَمْسٍ» فَلَا مُنَافَاة بَيْنهمَا إِذْ لَيْسَ فِي ذِكْر الثَّلَاث نَفْي لِلْخَمْسِ، وَالزِّيَادَة مَقْبُولَة، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَة الْأَخِيرَة: «بِثَلَاثَةِ ذَوْد» بِإِثْبَاتِ الْهَاء، وَهُوَ صَحِيح يَعُود إِلَى مَعْنَى الْإِبِل وَهُوَ الْأَبْعِرَة. وَاللَّهُ أَعْلَم.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّه حَمَلَكُمْ» تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ لِهَذَا الْحَدِيث.قَوْله تَعَالَى: {وَاَللَّه خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وَأَرَادَ أَنَّ أَفْعَال الْعِبَاد مَخْلُوقَة لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا مَذْهَب أَهْل السُّنَّة خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى آتَانِي مَا حَمَلْتُكُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي مَا أَحْمِلكُمْ عَلَيْهِ.قَالَ الْقَاضِي: وَيَجُوز أَنْ يَكُون أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ يَحْمِلهُمْ أَوْ يَكُون الْمُرَاد دُخُولهمْ مِنْ أَمْر اللَّه تَعَالَى بِالْقَسْمِ فيهمْ. وَاللَّهُ أَعْلَم.3110- قَوْله: «أَسْأَلهُ لَهُمْ الْحُمْلَان» بِضَمِّ الْحَاء، أَيْ: الْحَمْل.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذْ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ» أَيْ: الْبَعِيرَيْنِ الْمَقْرُون أَحَدهمَا بِصَاحِبِهِ.3111- قَوْله فِي لَحْم الدَّجَاج: «رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُل مِنْهُ» فيه: إِبَاحَة لَحْم الدَّجَاج، وَمَلَاذ الْأَطْعِمَة، وَيَقَع اِسْم الدَّجَاج عَلَى الذُّكُور وَالْإِنَاث، وَهُوَ بِكَسْرِ الدَّال وَفَتْحهَا.قَوْله: «بِنَهْبِ إِبِل» قَالَ أَهْل اللُّغَة: النَّهْب الْغَنِيمَة، وَهُوَ بِفَتْحِ النُّون وَجَمْعه: نِهَاب بِكَسْرِهَا، وَنُهُوب بِضَمِّهَا، وَهُوَ مَصْدَر بِمَعْنَى الْمَنْهُوب كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوق.قَوْله: «أَغْفَلْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينه» هُوَ بِإِسْكَانِ اللَّام، أَيْ جَعَلْنَاهُ غَافِلًا، وَمَعْنَاهُ: كُنَّا سَبَب غَفْلَته عَنْ يَمِينه وَنِسْيَانه إِيَّاهَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ إِيَّاهَا أَيْ: أَخَذْنَا مِنْهُ مَا أَخَذْنَا وَهُوَ ذَاهِل عَنْ يَمِينه.قَوْله: (حَدَّثَنَا الصَّعِق يَعْنِي: اِبْن حَزْن، قَالَ: حَدَّثَنَا مَطَر الْوَرَّاق عَنْ زَهْدَم) هُوَ الصَّعِق بِفَتْحِ الصَّاد وَبِكَسْرِ الْعَيْن وَإِسْكَانهَا، وَالْكَسْر أَشْهَر.قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الصَّعِق وَمَطَر لَيْسَا قَوِيَّيْنِ، وَلَمْ يَسْمَعهُ مَطَر مِنْ زَهْدَم، وَإِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ الْقَاسِم عَنْهُ، فَاسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِم، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال فَاسِد؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَذْكُرهُ مُتَّصِلًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُتَابَعَة لِلطُّرُقِ الصَّحِيحَة السَّابِقَة، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمُتَابَعَات يَحْتَمِل فيها الضَّعْف لِأَنَّ الِاعْتِمَاد عَلَى مَا قَبْلهَا، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْر مُسْلِم لِهَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي أَوَّل خُطْبَة كِتَابه وَشَرَحْنَاهُ هُنَاكَ، وَأَنَّهُ يَذْكُر بَعْض الْأَحَادِيث الضَّعِيفَة مُتَابَعَة لِلصَّحِيحَةِ.وَأَمَّا قَوْله: إِنَّهُمَا لَيْسَا قَوِيَّيْنِ، فَقَدْ خَالَفَهُ الْأَكْثَرُونَ، فَقَالَ يَحْيَى بْن مَعِين وَأَبُو زُرْعَة: هُوَ ثِقَة، فِي الصَّعِق، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَا بِهِ بَأْس، وَقَالَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاث فِي مَطَر الْوَرَّاق: هُوَ صَالِح، وَإِنَّمَا ضَعَّفُوا رِوَايَته عَنْ عَطَاء خَاصَّة.3112- قَوْله: (عَنْ زَهْدَم الْجَرْمِيّ) هُوَ بِزَايٍ مَفْتُوحَة ثُمَّ هَاء سَاكِنَة ثُمَّ دَال مُهْمَلَة مَفْتُوحَة.قَوْله: (عَنْ ضُرَيْب بْن نُقَيْر) أَمَّا (ضُرَيْب) فَبِضَادٍ مُعْجَمَة مُصَغَّرَة، و(نُقَيْر) بِضَمِّ النُّون وَفَتْح الْقَاف وَآخِرُهُ رَاء، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور الْمَعْرُوف عَنْ أَكْثَر الرُّوَاة فِي كُتُب الْأَسْمَاء، وَرَوَاهُ بَعْضهمْ بِالْفَاءِ، وَقِيلَ: نُفَيْل بِالْفَاءِ وَآخِره لَام.قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو السَّلِيل) هُوَ بِفَتْحِ السِّين الْمُهْمَلَة وَكَسْر اللَّام، وَهُوَ ضُرَيْب بْن نُقَيْر الْمَذْكُور فِي الرِّوَايَة الْأُولَى.3116- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين ثُمَّ رَأَى أَتْقَى لِلَّهِ فَلْيَأْتِ التَّقْوَى» هُوَ بِمَعْنَى الرِّوَايَات السَّابِقَة: «فَرَأَى خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْر».3120- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَبْد الرَّحْمَن بْن سَمُرَة لَا تَسَلْ الْإِمَارَة، فَإِنَّك إِنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَة وُكِلْت إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتهَا عَنْ غَيْر مَسْأَلَة أُعِنْت عَلَيْهَا» هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ: «وُكِلْت إِلَيْهَا» وَفِي بَعْضهَا: «أُكِلْت إِلَيْهَا» بِالْهَمْزَةِ.وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَوَائِد: مِنْهَا: كَرَاهَة سُؤَال الْوِلَايَة سَوَاء وِلَايَة الْإِمَارَة وَالْقَضَاء وَالْحِسْبَة وَغَيْرهَا.وَمِنْهَا: بَيَان أَنَّ مَنْ سَأَلَ الْوِلَايَة لَا يَكُون مَعَهُ إِعَانَة مِنْ اللَّه تَعَالَى، وَلَا تَكُون فيه كِفَايَة لِذَلِكَ الْعَمَل، فَيَنْبَغِي أَلَّا يُوَلَّى، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نُوَلِّي عَمَلنَا مَنْ طَلَبَهُ أَوْ حَرَصَ عَلَيْهِ».قَوْله: (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْن فَرُّوخ حَدَّثَنَا جَرِير....) إِلَى آخِره، وَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ فِي آخِر هَذَا الْحَدِيث (قَالَ أَبُو أَحْمَد الْجُلُودِيّ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس الْمَاسَرْجَسِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بِهَذَا) وَمُرَاده أَنَّهُ عَلَا بِرَجُلٍ..باب يَمِينِ الْحَالِفِ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ: 3121- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمِينك عَلَى مَا يُصَدِّقُك عَلَيْهِ صَاحِبك» وَفِي رِوَايَة: «الْيَمِين عَلَى نِيَّة الْمُسْتَحْلِف» الْمُسْتَحْلِف بِكَسْرِ اللَّام، وَهَذَا الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى الْحَلِف بِاسْتِحْلَافِ الْقَاضِي، فَإِذَا ادَّعَى رَجُل عَلَى رَجُل حَقًّا فَحَلَّفَهُ الْقَاضِي فَحَلَفَ وَوَرَّى فَنَوَى غَيْر مَا نَوَى الْقَاضِي، اِنْعَقَدَتْ يَمِينه عَلَى مَا نَوَاهُ الْقَاضِي وَلَا تَنْفَعهُ التَّوْرِيَة، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ، وَدَلِيله هَذَا الْحَدِيث وَالْإِجْمَاع.فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ بِغَيْرِ اِسْتِخْلَاف الْقَاضِي وَوَرَّى تَنْفَعهُ التَّوْرِيَة، وَلَا يَحْنَث، سَوَاء حَلِف اِبْتِدَاء مِنْ غَيْر تَحْلِيف، أَوْ حَلَّفَهُ غَيْر الْقَاضِي وَغَيْر نَائِبه فِي ذَلِكَ، وَلَا اِعْتِبَار بِنِيَّةِ الْمُسْتَحْلِف غَيْر الْقَاضِي، وَحَاصِله أَنَّ الْيَمِين عَلَى نِيَّة الْحَالِف فِي كُلّ الْأَحْوَال إِلَّا إِذَا اِسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي أَوْ نَائِبه فِي دَعْوَى تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ، فَتَكُون عَلَى نِيَّة الْمُسْتَحْلِف، وَهُوَ مُرَاد الْحَدِيث.أَمَّا إِذَا حَلَفَ عِنْد الْقَاضِي مِنْ غَيْر اِسْتِحْلَاف الْقَاضِي فِي دَعْوَى، فَالِاعْتِبَار بِنِيَّةِ الْحَالِف، وَسَوَاء فِي هَذَا كُلّه الْيَمِين بِاَللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاق، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا حَلَّفَهُ الْقَاضِي بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْعَتَاقِ تَنْفَعهُ التَّوْرِيَة، وَيَكُون الِاعْتِبَار بِنِيَّةِ الْحَالِف؛ لِأَنَّ الْقَاضِي لَيْسَ لَهُ التَّحْلِيف بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاق، وَإِنَّمَا يَسْتَحْلِف بِاَللَّهِ تَعَالَى.وَأَعْلَم أَنَّ التَّوْرِيَة وَإِنْ كَانَ لَا يَحْنَث بِهَا، فَلَا يَجُوز فِعْلُهَا حَيْثُ يُبْطِلُ بِهَا حَقَّ مُسْتَحِقٍّ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.هَذَا تَفْصِيل مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ مَالِك وَأَصْحَابه فِي ذَلِكَ اِخْتِلَافًا وَتَفْصِيلًا، فَقَالَ: لَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء أَنَّ الْحَالِف مِنْ غَيْر اِسْتِحْلَاف وَمِنْ غَيْر تَعَلُّق حَقّ بِيَمِينِهِ لَهُ نِيَّته، وَيُقْبَل قَوْله، وَأَمَّا إِذَا حَلَفَ لِغَيْرِهِ فِي حَقّ أَوْ وَثِيقَة مُتَبَرِّعًا أَوْ بِقَضَاءٍ عَلَيْهِ، فَلَا خِلَاف أَنَّهُ يُحْكَم عَلَيْهِ بِظَاهِرِ يَمِينه سَوَاء حَلَفَ مُتَبَرِّعًا بِالْيَمِينِ أَوْ بِاسْتِحْلَافٍ، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنه وَبَيْن اللَّه تَعَالَى فَقِيلَ: الْيَمِين عَلَى نِيَّة الْمَحْلُوف لَهُ، وَقِيلَ: عَلَى نِيَّة الْحَالِف، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مُسْتَحْلِفًا فَعَلَى نِيَّة الْمَحْلُوف لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِالْيَمِينِ فَعَلَى نِيَّة الْحَالِف، وَهَذَا قَوْل عَبْد الْمَلِك وَسَحْنُون، وَهُوَ ظَاهِر قَوْل مَالِك وَابْن الْقَاسِم، وَقِيلَ: عَكْسه، وَهِيَ رِوَايَة يَحْيَى عَنْ اِبْن الْقَاسِم، وَقِيلَ: تَنْفَعهُ نِيَّته فِيمَا لَا يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِ، وَيَفْتَرِق التَّبَرُّع فِيمَا يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَرْوِيّ عَنْ اِبْن الْقَاسِم أَيْضًا، وَحُكِيَ عَنْ مَالِك: أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْه الْمَكْر وَالْخَدِيعَة فَهُوَ فيه آثِم حَانِث، وَمَا كَانَ عَلَى وَجْه الْعُذْر فَلَا بَأْس بِهِ؛ وَقَالَ اِبْن حَبِيب عَنْ مَالِك: مَا كَانَ عَلَى وَجْه الْمَكْر وَالْخَدِيعَة فَلَهُ نِيَّته، وَمَا كَانَ فِي حَقّ فَهُوَ عَلَى نِيَّة الْمَحْلُوف لَهُ.قَالَ الْقَاضِي: وَلَا خِلَافَ فِي إِثْم الْحَالِف بِمَا يَقَع بِهِ حَقّ غَيْره وَإِنْ وَرَّى. وَاللَّهُ أَعْلَم.3122- سبق شرحه بالباب..باب الاِسْتِثْنَاءِ: ذَكَرَ فِي الْبَاب حَدِيث سُلَيْمَان بْن دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام، وَفيه فَوَائِد: مِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلْإِنْسَانِ إِذَا قَالَ سَأَفْعَلُ كَذَا أَنْ يَقُول: إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاء اللَّه} وَلِهَذَا الْحَدِيث. وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ وَقَالَ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ: إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، لَمْ يَحْنَث بِفِعْلِهِ الْمَحْلُوف عَلَيْهِ، وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاء يَمْنَع اِنْعِقَاد الْيَمِين لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيث: «لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّه لَمْ يَحْنَث، وَكَانَ دَرْكًا لِحَاجَتِهِ»، وَيُشْتَرَط لِصِحَّةِ هَذَا الِاسْتِثْنَاء شَرْطَانِ: أَحَدهمَا: أَنْ يَقُولهُ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ.وَالثَّانِي: أَنْ يَكُون نَوَى قَبْل فَرَاغ الْيَمِين أَنْ يَقُول: إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.قَالَ الْقَاضِي: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ قَوْله: إِنْ شَاءَ اللَّه يَمْنَع اِنْعِقَاد الْيَمِين بِشَرْطِ كَوْنه مُتَّصِلًا، قَالَ: وَلَوْ جَازَ مُنْفَصِلًا- كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْض السَّلَف- لَمْ يَحْنَث أَحَد قَطُّ فِي يَمِين، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى كَفَّارَة، قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي الِاتِّصَال فَقَالَ مَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور: هُوَ أَنْ يَكُون قَوْله: إِنْ شَاءَ اللَّه مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ مِنْ غَيْر سُكُوت بَيْنهمَا وَلَا تَضُرّ سَكْتَة النَّفَس، وَعَنْ طَاوُسٍ وَالْحَسَن وَجَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّ لَهُ الِاسْتِثْنَاء مَا لَمْ يَقُمْ مِنْ مَجْلِسه، وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا لَمْ يَقُمْ أَوْ يَتَكَلَّم، وَقَالَ عَطَاء: قَدْر حَلَبَة نَاقَة، وَقَالَ سَعِيد بْنُ جُبَيْر: بَعْد أَرْبَعَة أَشْهُر، وَعَنْ اِبْن عَبَّاس لَهُ الِاسْتِثْنَاء أَبَدًا مَتَى تَذَكَّرَهُ، وَتَأَوَّلَ بَعْضهمْ هَذَا الْمَنْقُول عَنْ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ مُرَادهمْ أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لَهُ قَوْل إِنْ شَاءَ اللَّه تَبَرُّكًا، قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّك إِذَا نَسِيت} وَلَمْ يُرِيدُوا بِهِ حَلَّ الْيَمِين وَمَنْع الْحِنْث.أَمَّا إِذَا اِسْتَثْنَى فِي الطَّلَاق وَالْعِتْق وَغَيْر ذَلِكَ سِوَى الْيَمِين بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِق إِنْ شَاءَ اللَّه! أَوْ أَنْتَ حُرّ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، أَوْ لِزَيْدٍ فِي ذِمَّتِي أَلْف دِرْهَم إِنْ شَاءَ اللَّه، أَوْ إِنْ شُفِيَ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْم شَهْر إِنْ شَاءَ اللَّه أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَالْكُوفِيِّينَ وَأَبِي ثَوْر وَغَيْرهمْ صِحَّة الِاسْتِثْنَاء فِي جَمِيع الْأَشْيَاء، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهَا فِي الْيَمِين بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَحْنَث فِي طَلَاق وَلَا عِتْق، وَلَا يَنْعَقِد ظِهَاره وَلَا نَذْره، وَلَا إِقْرَاره وَلَا غَيْر ذَلِكَ، مِمَّا يَتَّصِل بِهِ قَوْله إِنْ شَاءَ اللَّه، وَقَالَ مَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَصِحّ الِاسْتِثْنَاء فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الْيَمِين بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْله: «وَلَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّه لَمْ يَحْنَث» فيه إِشَارَة إِلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاء يَكُون بِالْقَوْلِ، وَلَا تَكْفِي فيه النِّيَّة، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَمَالِك وَأَحْمَد وَالْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْض الْمَالِكِيَّة أَنَّ قِيَاس قَوْل مَالِك صِحَّة الِاسْتِثْنَاء بِالنِّيَّةِ مِنْ غَيْر لَفْظ.3123- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَطُوفَنَّ» وَفِي بَعْض النُّسَخ: «لَأَطِيفَنَّ اللَّيْلَة» هُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ طَافَ بِالشَّيْءِ وَأَطَافَ بِهِ إِذَا دَارَ حَوْله، وَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ، فَهُوَ طَائِف وَمُطِيف، وَهُوَ هُنَا كِنَايَة عَنْ الْجِمَاع.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ لِسُلَيْمَان سِتُّونَ اِمْرَأَة» وَفِي رِوَايَة: «سَبْعُونَ» وَفِي رِوَايَة: «تِسْعُونَ» وَفِي غَيْر صَحِيح مُسْلِم: «تِسْع وَتِسْعُونَ» وَفِي رِوَايَة: «مِائَة». هَذَا كُلّه لَيْسَ بِمُتَعَارِضٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِكْر الْقَلِيل نَفْي الْكَثِير، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذَا مَرَّات، وَهُوَ مِنْ مَفْهُوم الْعَدَد، وَلَا يُعْمَل بِهِ عِنْد جَمَاهِير الْأُصُولِيِّينَ، وَفِي هَذَا: بَيَان مَا خُصَّ بِهِ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه تَعَالَى وَسَلَامه عَلَيْهِمْ مِنْ الْقُوَّة عَلَى إِطَاقَة هَذَا فِي لَيْلَة وَاحِدَة، وَكَانَ نَبِيًّا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوف عَلَى إِحْدَى عَشْرَة اِمْرَأَة لَهُ فِي السَّاعَة الْوَاحِدَة، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح، وَهَذَا كُلّه مِنْ زِيَادَة الْقُوَّة، وَاللَّهُ أَعْلَم.قَوْله: «فَتَحْمِل كُلُّ وَاحِدَة مِنْهُنَّ فَتَلِد كُلّ وَاحِدَة مِنْهُنَّ غُلَامًا فَارِسًا يُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّه» هَذَا قَالَهُ عَلَى سَبِيل التَّمَنِّي لِلْخَيْرِ، وَقَصَدَ بِهِ الْآخِرَة وَالْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه تَعَالَى لَا لِغَرَضِ الدُّنْيَا، قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَمْ تَحْمِل مِنْهُنَّ إِلَّا وَاحِدَة فَوَلَدَتْ نِصْف إِنْسَان» وَفِي رِوَايَة: «جَاءَتْ بِشِقِّ غُلَام» قِيلَ هُوَ الْجَسَد الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ أُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيّه.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كَانَ اِسْتَثْنَى لَوَلَدَتْ كُلّ وَاحِدَة مِنْهُنَّ غُلَامًا فَارِسًا يُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّه تَعَالَى» هَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فِي حَقّ سُلَيْمَان، لَا أَنَّ كُلّ مَنْ فَعَلَ هَذَا يَحْصُل لَهُ هَذَا.3124- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَالَ لَهُ صَاحِبه أَوْ الْمَلَك قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّه فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ» قِيلَ: الْمُرَاد بِصَاحِبِهِ الْمَلَك، وَهُوَ الظَّاهِر مِنْ لَفْظه، وَقِيلَ: الْقَرِين، وَقِيلَ: صَاحِب لَهُ آدَمِيّ. وَقَوْله: (نُسِّيَ) ضَبَطَهُ بَعْض الْأَئِمَّة بِضَمِّ النُّون وَتَشْدِيد السِّين وَهُوَ ظَاهِر حَسَن. وَاللَّهُ أَعْلَم.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكَانَ دَرَكًا لَهُ فِي حَاجَته» هُوَ بِفَتْحِ الرَّاء اِسْم مِنْ الْإِدْرَاك، أَيْ: لِحَاقًا، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {لَا تَخَاف دَرَكًا}.3126- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَالَ لَهُ صَاحِبه: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّه» قَدْ يَحْتَجّ بِهِ مَنْ يَقُول: بِجَوَازِ اِنْفِصَال الِاسْتِثْنَاء. وَأَجَابَ الْجُمْهُور عَنْهُ بِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون صَاحِبه قَالَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ بَعْدُ فِي أَثْنَاء الْيَمِين، أَوْ أَنَّ الَّذِي جَرَى مِنْهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيث تَصْرِيح بِيَمِينِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَيْم الَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّه لَجَاهَدُوا فِي سَبِيل اللَّه» فيه جَوَاز الْيَمِين بِهَذَا اللَّفْظ وَهُو: «أَيْم اللَّه وَأَيْمَن اللَّه» وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة: هُوَ يَمِين، وَقَالَ أَصْحَابنَا: إِنْ نَوَى بِهِ الْيَمِين فَهُوَ يَمِين، وَإِلَّا فَلَا.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّه لَجَاهَدُوا» فيه: جَوَاز قَوْل (لَوْ، وَلَوْلَا) قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هَذَا يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى جَوَاز قَوْل: (لَوْ، وَلَوْلَا) قَالَ: وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآن كَثِيرًا، وَفِي كَلَام الصَّحَابَة وَالسَّلَف، وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيّ عَلَى هَذَا بَاب مَا يَجُوز مِنْ اللَّوّ، وَأَدْخَلَ فيه قَوْل لُوط صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّة} وَقَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْت رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَة لَرَجَمْت هَذِهِ». وَ«لَوْ مُدَّ لِي الشَّهْر لَوَاصَلْت». وَ«لَوْلَا حِدْثَان قَوْمك بِالْكُفْرِ لَأَتْمَمْت الْبَيْت عَلَى قَوَاعِد إِبْرَاهِيم». وَ«لَوْلَا الْهِجْرَة لَكُنْت اِمْرَأً مِنْ الْأَنْصَار» وَأَمْثَال هَذَا، قَالَ: وَاَلَّذِي يُتَفَهَّم مِنْ تَرْجَمَة الْبُخَارِيّ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَاب مِنْ الْقُرْآن وَالْآثَار أَنَّهُ يَجُوز اِسْتِعْمَال لَوْ وَلَوْلَا فِيمَا يَكُون لِلِاسْتِقْبَالِ مِمَّا اِمْتَنَعَ مِنْ فِعْله لِامْتِنَاعِ غَيْره، وَهُوَ مِنْ بَاب الْمُمْتَنِع مِنْ فِعْله لِوُجُودِ غَيْره، وَهُوَ مِنْ بَاب لَوْلَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي الْبَاب سِوَى مَا هُوَ لِلِاسْتِقْبَالِ، أَوْ مَا هُوَ حَقّ صَحِيح مُتَيَقَّن كَحَدِيثِ: «لَوْلَا الْهِجْرَة لَكُنْت اِمْرَأً مِنْ الْأَنْصَار» دُون الْمَاضِي وَالْمُنْقَضِي، أَوْ مَا فيه اِعْتِرَاض عَلَى الْغَيْب وَالْقَدَر السَّابِق، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيث الْآخَر فِي صَحِيح مُسْلِم قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ أَصَابَك شَيْء فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْت كَذَا لَكَانَ كَذَا وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّه وَمَا شَاءَ فَعَلَ» قَالَ الْقَاضِي: قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: هَذَا إِذَا قَالَهُ عَلَى جِهَة الْحَتْم وَالْقَطْع بِالْغَيْبِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ كَذَا، مِنْ غَيْر ذِكْر مَشِيئَة اللَّه تَعَالَى. وَالنَّظَر إِلَى سَابِق قَدَره وَخَفِيّ عِلْمه عَلَيْنَا، فَأَمَّا مَنْ قَالَهُ عَلَى التَّسْلِيم وَرَدَّ الْأَمْر إِلَى الْمَشِيئَة فَلَا كَرَاهَة فيه.قَالَ الْقَاضِي: وَأَشَارَ بَعْضهمْ إِلَى أَنَّ (لَوْلَا) بِخِلَافِ (لَوْ)، قَالَ الْقَاضِي: وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُمَا سَوَاء إِذَا اُسْتُعْمِلَتَا فِيمَا لَمْ يُحِطْ بِهِ الْإِنْسَان عِلْمًا، وَلَا هُوَ دَاخِل تَحْت مَقْدُور قَائِلهمَا مِمَّا هُوَ تَحَكُّم عَلَى الْغَيْب وَاعْتِرَاض عَلَى الْقَدَر، كَمَا نُبِّهَ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيث وَمِثْل قَوْل الْمُنَافِقِينَ: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}. {لَوْ كَانُوا عِنْدنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}. وَ{لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الْأَمْر شَيْء مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} فَرَدَّ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ بَاطِلهمْ فَقَالَ: {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسكُمْ الْمَوْت إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فَمِثْل هَذَا هُوَ الْمَنْهِيّ عَنْهُ.وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيث الَّذِي نَحْنُ فيه فَإِنَّمَا أَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه عَنْ يَقِين نَفْسه أَنَّ سُلَيْمَان لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّه لَجَاهَدُوا إِذْ لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُدْرَك بِالظَّنِّ وَالِاجْتِهَاد، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ حَقِيقَة أَعْلَمَهُ اللَّه تَعَالَى بِهَا، وَهُوَ نَحْو قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيل لَمْ يَخْنَز اللَّحْم، وَلَوْلَا حَوَّاء لَمْ تَخُنْ اِمْرَأَة زَوْجهَا» فَلَا مُعَارَضَة بَيْن هَذَا وَبَيْن حَدِيث النَّهْي عَنْ (لَوْ) وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْل إِلَى مَضَاجِعهمْ} {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنْ (لَوْلَا) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْلَا كِتَاب مِنْ اللَّه سَبَقَ لَمَسَّكُمْ}، {وَلَوْلَا أَنْ يَكُون النَّاس أُمَّة وَاحِدَة لَجَعَلَنَا} {وَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنه} لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مُخْبِر فِي كُلّ ذَلِكَ عَمَّا مَضَى أَوْ يَأْتِي عَنْ عِلْم خَبَرًا قَطْعِيًّا، وَكُلّ مَا يَكُون مِنْ لَوْ وَلَوْلَا مِمَّا يُخْبِر بِهِ الْإِنْسَان عَنْ عِلَّة اِمْتِنَاعه مِنْ فِعْله مِمَّا يَكُون فِعْله فِي قُدْرَته، فَلَا كَرَاهَة فيه؛ لِأَنَّهُ إِخْبَار حَقِيقَة عَنْ اِمْتِنَاع شَيْء لِسَبَبِ شَيْء وَحُصُول شَيْء لِامْتِنَاعِ شَيْء، وَتَأْتِي لَوْ غَالِبًا لِبَيَانِ السَّبَب الْمُوجِب أَوْ النَّافِي، فَلَا كَرَاهَة فِي كُلّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا، إِلَّا أَنْ يَكُون كَاذِبًا فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ الْمُنَافِقِينَ: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ}. وَاللَّهُ أَعْلَم..باب النَّهْيِ عَنِ الإِصْرَارِ عَلَى الْيَمِينِ فِيمَا يَتَأَذَّى بِهِ أَهْلُ الْحَالِفِ مِمَّا لَيْسَ بِحَرَامٍ: 3127- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْله آثَمُ لَهُ عِنْد اللَّه مِنْ أَنْ يُعْطِي كَفَّارَته الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ» أَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ» فَبِفَتْحِ اللَّام، وَهُوَ لَامَ الْقَسَم.وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَلَجّ» هُوَ بِفَتْحِ الْيَاء وَاللَّام وَتَشْدِيد الْجِيم، و«آثَم» بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَة وَثَاء مُثَلَّثَة، أَيْ: أَكْثَر إِثْمًا. وَمَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ يَمِينًا تَتَعَلَّق بِأَهْلِهِ، وَيَتَضَرَّرُونَ بِعَدَمِ حِنْثه، وَيَكُون الْحِنْث لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْنَث فَيَفْعَل ذَلِكَ الشَّيْء، وَيُكَفِّر عَنْ يَمِينه فَإِنْ قَالَ: لَا أَحْنَث؛ بَلْ أَتَوَرَّع عَنْ اِرْتِكَاب الْحِنْث وَأَخَاف الْإِثْم فيه، فَهُوَ مُخْطِئ بِهَذَا الْقَوْل: بَلْ اِسْتِمْرَاره فِي عَدَم الْحِنْث، وَإِدَامَة الضَّرَر عَلَى أَهْله أَكْثَر إِثْمًا مِنْ الْحِنْث.وَاللِّجَاج فِي اللُّغَة: هُوَ الْإِصْرَار عَلَى الشَّيْء.فَهَذَا مُخْتَصَر بَيَان مَعْنَى الْحَدِيث، ولابد مِنْ تَنْزِيله عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْحِنْث لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا.وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آثَم» فَخَرَجَ عَلَى لَفْظ الْمُفَاعَلَة الْمُقْتَضِيَة لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْإِثْم، لِأَنَّهُ قَصَدَ مُقَابَلَة اللَّفْظ عَلَى زَعْم الْحَالِف وَتَوَهَّمَهُ فَإِنَّهُ يَتَوَهَّم أَنَّ عَلَيْهِ إِثْمًا فِي الْحِنْث مَعَ أَنَّهُ لَا إِثْم عَلَيْهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْإِثْم عَلَيْهِ فِي اللِّجَاج أَكْثَر لَوْ ثَبَتَ الْإِثْم، وَاللَّهُ أَعْلَم بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ..باب نَذْرِ الْكَافِرِ وَمَا يَفْعَلُ فِيهِ إِذَا أَسْلَمَ: فيه: حَدِيث عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِف لَيْلَة فِي الْجَاهِلِيَّة، وَفِي رِوَايَة: «نَذَرَ اِعْتِكَاف يَوْم فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْفِ بِنَذْرِك».اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي صِحَّة نَذْر الْكَافِر، فَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَسَائِر الْكُوفِيِّينَ وَجُمْهُور أَصْحَابنَا: لَا يَصِحّ، وَقَالَ الْمُغِيرَة الْمَخْزُومِيّ وَأَبُو ثَوْر وَالْبُخَارِيّ وَابْن جَرِير وَبَعْض أَصْحَابنَا: يَصِحّ، وَحُجَّتهمْ ظَاهِر حَدِيث عُمَر، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْهُ أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى الِاسْتِحْبَاب، أَيْ: يُسْتَحَبّ لَك أَنْ تَفْعَل الْآن مِثْل ذَلِكَ الَّذِي نَذَرْته فِي الْجَاهِلِيَّة. وَفِي هَذَا الْحَدِيث: دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ فِي صِحَّة الِاعْتِكَاف بِغَيْرِ صَوْم، وَفِي صِحَّته بِاللَّيْلِ كَمَا يَصِحّ بِالنَّهَارِ. سَوَاء كَانَتْ لَيْلَة وَاحِدَة أَوْ بَعْضهَا، أَوْ أَكْثَر، وَدَلِيله حَدِيث عُمَر هَذَا.وَأَمَّا الرِّوَايَة الَّتِي فيها اِعْتِكَاف يَوْم فَلَا تُخَالِف رِوَايَة اِعْتِكَاف لَيْلَة، لِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ اِعْتِكَاف لَيْلَة، وَسَأَلَهُ عَنْ اِعْتِكَاف يَوْم، فَأَمَرَهُ بِالْوَفَاءِ بِمَا نَذَرَ، فَحَصَلَ مِنْهُ صِحَّة اِعْتِكَاف اللَّيْل وَحْده، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر، أَنَّ عُمَر نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِف لَيْلَة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام فَسَأَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «أَوْفِ بِنَذْرِك» فَاعْتَكَفَ عُمَر لَيْلَة. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: إِسْنَاده ثَابِت. هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَابْن الْمُنْذِر، وَهُوَ أَصَحّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد، قَالَ اِبْن الْمُنْذِر: وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود، وَقَالَ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَعُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَالزُّهْرِيّ وَمَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد وَإِسْحَاق فِي رِوَايَة عَنْهُمَا: لَا يَصِحّ إِلَّا بِصَوْمٍ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء.قَوْله: «ذُكِرَ عِنْد اِبْن عُمَر عُمْرَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجِعْرَانَة فَقَالَ: لَمْ يَعْتَمِر مِنْهَا» هَذَا مَحْمُول عَلَى نَفْي عِلْمه، أَيْ: أَنَّهُ لَمْ يَعْلَم ذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِعْتَمَرَ مِنْ الْجِعْرَانَة، وَالْإِثْبَات مُقَدَّم عَلَى النَّفْي لِمَا فيه مِنْ زِيَادَة الْعِلْم، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم فِي كِتَاب الْحَجّ اِعْتِمَار النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجِعْرَانَة عَام حُنَيْنٍ مِنْ وَرَايَة أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
|